شريف ايمن عبد السميع .
الابراج : 427 نقاط التفوق : 22355 تاريخ التسجيل : 15/10/2009 العمل : جامعي . :
| موضوع: حياة الرسول عليه افضل الصلاة والسلام ..الجزء الثاني.. الخميس أكتوبر 29, 2009 2:19 am | |
| ثانيا: من البعثة حتى الهجرة
تمهيد ]يختلف المؤرخون في من الرسول صلى الله عليه و سلم حين نزل عليه الوحي هل أربعين أم ثلاث و أربعين واختلفوا في اليوم الذي نزل فيه الوحي: السابع أو الثامن عشر أو الرابع والعشرين واختلفوا أيضا في كيفية تلقي الرسول للوحي ,وهل كان في اليقظة أم في المنام؟ ولكن الصحيح أن الوحي نزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين السابع من رمضان للسنة الثالثة عشرة قبل الهجرة أو الحادية والأربعين من مولده فيكون عمره بالضبط أربعين سنة قمرية وستة أشهر وثمانية أيام وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر وثمانية أيام وذلك يوافق السادس من أغسطس سنة 160 ميلادية
نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في غار حراء فقال:اقرأ فقال:ما أنا بقارئ يقول الرسول صلى الله عليه و سلم ,:فغطني حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلني فقال: أقرأ فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ فرجع بها الرسول الله صلى الله عليه و سلم يرجف فؤاده فدخل على زوجته خديجة رضى الله عنها فقال زملونى, فزملته, حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة بعد أن أخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة : كلا والله لا يخزيك الله ابدا إنك لتصل الرحم , وتحمل الكل , وتكسب المعدوم, وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق
انطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد عبد العزى وكان عم خديجة وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان شيخا كبير قد عمى, فقالت له يا بن عم اسمع من أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس (أي جبريل أو الوحي ) الذي نزل على موسى ياليتنى كنت جذعا (شابا قويا) ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: أو مخرجي هم: قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدر كني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم يلبث ورقة أن توفى وفتر الوحي
واشتد ذلك على رسول الله فكان يجوب شعاب مكة ويصعد جبالها عله يقابل الملك الذى جاءه بالغار, ولم يلبث أن نزل الوحى عليه مرة أخرى يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : بينما أنا أمشى إذ سمعت صوتا من السماء, فرفعت بصري فاذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه, فرجعت فقلت : زملونى زملونى فأنزل الله عز وجل : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ إلى قوله : وَالْرُّجزَ فَاهْجُر فحمي الوحي وتواتر
وحاول محترفوا التشكيك فى الإسلام أن يزيفوا حقيقة الوحى الإلهية ويقولون أنه مرحلة متقدمة من مراحل الصفاء النفسى لمحمد علية السلام بمعنى أن محمدا أمعن فكره وأطال تأمله حتى تكونت عنده عقيدة يراها كفيلة بالقضاء على الوثنية , فدعا الناس إليها وهم بذلك يريدون أن يشككوا المسلمين فى حقيقة دينهم وإن ما أتى به محمد ليس من ربه وإنما من عند نفسه, وهم أن نجحوا فى ذلك إنهدمت العقيدة الإسلامية وهذا كل ما يأملون وفى محاولة للرد على هؤلاء يقول الدكتور البوطى لقد فوجئ محمد صلى الله عليه و سلم وهو فى غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينة, وهو يقول له أقرا, حتى يتبين أن ظاهرة الوحى ليست أمرا ذاتيا داخليا مردة إلى حديث النفس المجرد وإنما هى إستقبال وتلق لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات.وضم الملك إياه إرسالة ثلاثة مرات قائلا فى كل مرة : أقرا يعتبر تأكيدا لهذا التلقى الخارجي ومبالغة فى ما قد يتصور من أن الامر لا يعد كونه خيالا داخليا فقط
ولقد داخلة الخوف والرعب مما سمع ورأى حتى أنه قطع خلوته فى الغار وأسرع عائدا إلى البيت يرجف فؤاده مما يدل على أن ظاهر الوحى هذه لم تأت منسجمة أو متممة لشيء مما قد يتصوره أو يخطر فى باله, وإنما طرأت طروءا مثيرا على حياته وفوجئ بها دون أي توقع سابق
ثم إن شيئا من حالات الإلهام أو حديث النفس أو الإشراف الروحي أو التأملات العلوية, لا يستدعى الخوف والرعب وامتقاع اللون. وليس ثمة أي انسجام بين التدريج والتأمل من ناحية ومفاجأة الخوف والرعب من ناحية أخرى, وإلا لاقتضى ذلك أن يعيش عامة المفكرين والمتأملين نهبا لدفعات من الرعب والخوف المفاجئة المتلاحقة
وقد كان الله عز وجل قادرا على أن يربط على قلب رسوله ويطمئن نفسه بأن هذا الذي كلمة ليس إلا جبريل: ملك من ملائكة الله جاء ليخبره أنه رسول الله إلى الناس- ولكن الحكمة الإلهية الباهرة تريد إظهار الانفصال التام بين شخصية محمد صلى الله عليه و سلم قبل البعثة وشخصيته بعدها وبيان أن شيئا من أركان العقيدة الإسلامية والتشريع الإسلامي لم يطبخ فى ذهن الرسول عليه الصلاة والسلام مسبقا ولم يتصور الدعوة إليه سلفا
لقد قضت الحكمة الإلهية أن يحتجب عنه الملك الذي رآه لأول مرة في غار حراء مدة طويلة وأن يستبد به القلق من ذلك, ثم يتحول القلق لديه إلي خوف في نفسه من أن يكون الله عز وجل قد قلاه بعد أن أراد أن يشرفه بالوحي والرسالة, لسوء قد صدر منه حتى لقد ضاقت الدنيا عليه وراحت تحدثه نفسه كلما وصل إلى ذروة جبل أن يلقى منها!! إلى أن رأى ذات يوم الملك الذي رآه في حراء ملأ شكله ما بين السماء والأرض يقول: يا محمد أنت رسول الله إلى الناس فعاد مرة أخرى وقد استبد به الخوف والرعب إلى البيت حيث نزل عليه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ وإذا فإن حديث بدء الوحي على النحو الذي ورد فى الحديث الثابت الصحيح ينطوي على تهديم كل ما يحاول المشككون تخييله إلى الناس في أمر الوحي والنبوة التي أكرم الله بها محمدا عليه والصلاة والسلام وإذا تبين لك أدركت مدى الحكمة الالهية العظيمة في أن تكون بداءة الوحي على النحو الذي أراده عز وجل وربما عاد بعد ذلك محترفوا التشكيك, يسألون: فلماذا كان ينزل عليه صلى الله عليه و سلم الوحي بعد ذلك وهو بين الكثير من أصحابه فلا يري الملك أحد منهم سواه؟
والجواب أنه ليس من شروط وجود الموجودات أن ترى بالأبصار, إذ أن وسيلة الابصار فينا محدودة بحد معين وإلا لاقتضى ذلك أن يصبح الشيء معدوما إذا ابتعد عن البصر بعدا يمنع من رؤيته. على أن من اليسر على الله جل جلاله- وهو الخالق لهذه العيون المبصرة- أن يزيد فى قوة ما شاء منها فيرى ما لا تراه العيون الأخرى
ثم إن استمرار الوحي بعد ذلك يجعل نفس الدلالة على حقيقة الوحي وأنه ليس كما أراد المشككون, ظاهرة نفسية محضة, ونستطيع أن نجمل هذه الدلالة فيما يلي
أولا: التميز الواضح بين القرآن والحديث إذ كان يأمر بتسجيل الأول فورا على حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابه لا لأن الحديث كلام من عنده لا علاقة للنبوة به, بل لأن القرآن موحى به إليه بنفس اللفظ والحروف بواسطة جبريل عليه السلام أما الحديث فمعناه وحي من الله عز وجل, ولكن لفظه وتركيبة من عنده عليه السلام, فكان يحازر أن يختلط كلام الله عز وجل الذي يتلقاه من جبريل بكلامه هو
ثانيا: كان النبي صلى الله عليه و سلم يسأل عن بعض الأمور, فلا يجيب عليها, وربما مر على سكوته زمن طويل, حتى إذا نزلت آية من القرآن في شأن ذلك السؤال, طلب السائل وتلا عليه ما أنزل من القرآن في شأن سؤاله, وربما تصرف الرسول في بعض الأمور على وجه معين فتنزل آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه وربما انطوت على عتاب ولوم
ثالثا: كان الرسول الله صلى الله عليه و سلم أميا..وليس من الممكن أن يعلم إنسان بواسطة المكاشفة النفسية حقائق تاريخية, كقصة يوسف وأم موسى حينما ألقت وليدها في اليم وقصة فرعون ولقد كان هذا من جملة الحكم في كونه صلى الله عليه و سلم أمياً وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ
رابعا: إن صدق النبى صلى الله عليه و سلم أربعين سنة مع قومه واستشهاده فيهم بذلك يستدعى أن يكون صلى الله عليه و سلم من قبل ذلك صادقا مع نفسه .
الدعوة السرية -الفردية
بعد أن نزل قوله تعالى :يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ بدأ رسول الله يدعو سرا كل من وثق فيه إلى عبادة الله وكان أول من أسلم من النساء زوجته خديجة التي وقفت بجانبه تصدقه و تأمن روعه وتهون عليه أمر الناس وكان أول من أسلم من الصبيان على بن أبي طالب, ومن الموالى زيد بن حارثة, ومن الرجال أبو بكر الصديق الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم (ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه كبوة إلا أبى بكر) وبدأ أبو بكر يدعو من وثق به إلى الإسلام فأسلم على يديه الكثير من الأحرار والعبيد منهم عثمان بن عفان,و الزبير بن العوام, وعبد الرحمن بن عوف, وسعد بن أبى وقاص, وطلحة بن عبيد الله وبدأ المسلمون يدخلون أفرادا في دين الله ويحلو لكثير من المؤرخين القول بأن الإسلام في بدايته لم يجذب إليه إلا العبيد والفقراء ومن لا شأن لهم فى قريش
أما عن أنهم عبيد فقائمة ابن هشام التى جاءت في عشر صفحات والمتضمنة لأسماء المسلمين في الدعوة السرية لا تجد فيها غير عشرة من الموالى والحلفاء من بين ثلاثة وخمسين شخصا, اما عن أنهم من الفقراء ومن لا شأن لهم في قريش فدونك بعض أسماء السابقين فى الإسلام, والحكم لك على مقدار ما كان لهم من نفوذ وثروة فخديجة بنت خويلد رضى الله عنها أول من أسلم على الإطلاق كان لها من المال والتجارة ما يجعلها تنافس أكبر تجارة قريش ويكفى ذكر اسمها ليدل على عظم ثروتها
أما أبو بكر فكان أول الرجال إسلاما وكان صاحب تجارة واسعة ومال كثير وكان من رؤساء قريش فى الجاهلية وأهل مشورتهم وكان إليه أمر الديات والغرم فى الجاهلية وما يقضى به فى ذلك الشأن كانت قريش تعمل به وتنفذه, وبلغ رأس ماله فى الجاهلية أربعين ألف درهم أنفقها كلها في عتق رقاب العبيد المسلمين
أما عثمان بن عفان فكان أكثر قريش مالا وأوسعهم تجارة وكانت تجارته إلي الشام تحمل فوق ما يزيد عن مائة بعير وكان إليه ولاية أيتام أهل بيته وإعانة فقيرهم وبارك الله له في ماله فجهز في الإسلام جيشا كاملا على نفقته الخاصة هو جيش العسرة
أما طلحة بن عبيد الله فكان في تجارة رابحة ومال كثير وكانت تجارته تخرج إلى أسواق الشام والعراق ومن السابقين إلى الإسلام أيضا الزبير بن العوام, وسعد بن أبى وقاص- أبو عبيده بن الجراح أبو سلمة المخزومى والأرقم بن أبى الأرقم وصيب الرومي وخالد بن سعيد وسليط بن عمر, وعمير أبى وقاص وكثير غيرهم كانوا في ثروة واسعة أو على الأقل كانوا يحيون حياة كريمة في مجتمعهم, وفات هؤلاء المؤرخين أن يفهموا طبيعة الدعوة الإسلامية التي إذا مست شغاف القلب تعلق بها صاحبه لا فرق بين غنى وفقير أو حر وعبد وكان السابقون يتلقون تعاليم دينهم سرا من نبيهم وِِِإذا أرادوا ممارسة شعائرهم خرجوا إلى شعاب مكة بيعداً عن أعين قريش, ولما زاد عددهم اختار لهم رسول الله دار الأرقم ابن الأرقم ليجتمعوا بها
وظلت الدعوة السرية حوالي ثلاث سنوات أسلم فيها حسب رواية ابن هشام ثلاثة وخمسين شخصا بينهم عشر نساء
ومن حسن طالع المسلمين في هذه الفترة أن أسلم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان أعز فتى في قريش وأشدهم شكيمة ولقب بأسد قريش رجع يوما من صيده فعلم أن أبا جهل أعترض محمد ابن أخيه وآذاه وشتمه وسب دينه فغضب وذهب إلى أبى جهل فضربه بقوسه ضربة شديدة شجت رآسه وقال: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول, فرد ذلك على إن استطعت, فقام رجال من قريش لينصروا أبا جهل فقال لهم: دعوا أبا عمارة (يعنى حمزة) فأنى والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا, وأسرع حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: اشهد أنك الصادق, فاظهر يا ابن أخي دينك فو الله ما أحب أن لي ما أظلته السماء وأنى على ديني الأول, وكان إسلام حمزة فاتحة خير لرسول الله صلى الله عليه و سلم إذ عرفت قريش أن محمد قد عز وامتنع بإسلام حمزة فكفوا عن سبه, وكان حمزة ممن أعز الله بهم الإسلام .
الدعوة العلنية
بدأ رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلن دعوته بعد أن تنزل عليه قوله تعالى:وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وبدأ رسول الله صلى الله عليه و سلم بعشيرته فدعاهم على طعام وخطبهم قائلا: الحمد لله أحمده واستعينه, وأؤمن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله, والله الذي لا إله إلا هو إنى رسول الله إليكم خاصة وإلي الناس عامة, والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون وأنها الجنة أبدا والنار أبدا فقال أبو طالب ما أحب إلينا معاونتك وأقبلنا لنصيحتك واشد تصديقنا لحديثك و هؤلاء بنو أبيك مجتمعون وإنما أنا أحدهم عير أني أسرعهم إلي ما تحب, فامض لما أمرت به, فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب فقال أبو لهب: هذه والله السوأه, خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم فقال أبو طالب: لنمنعه ما بقينا
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا فصعد الصفا وهتف: يا صباحاه فقالت قريش من هذا الذي يهتف قالوا: محمدا, فاجتمعوا إليه. فقال: يابني عبد المطلب يابني عبد مناف يابني قصي ثم نادى قريش قبيلة قبيلة حتى أتى على أخرهم فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيل بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: فأنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب: تبا لك ما جمعتنا الا لهذا ثم انصرف فنزل قوله تعالى:تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ الى آخر السورة
ولم يتوان رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد ذلك فى تبليغ دعوته فدعا إليها ليلا ونهارا سرا وجهرا, يتبع قريش فى أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفى مواسم حجهم وكان يدعوا كل من لقيه حرا أو عبدا ضعيفا أو قويا غنيا أو فقيرا .
موقف قريش من الدعوة
كان موقف قريش من الدعوة الإسلامية وصاحبها فى بداية أمرها موقف الاستهزاء والسخرية، فكان إذا مر بهم الرسول صلى الله عليه و سلم أو رأوه يصلى عند الكعبة يتغامزون ويتضاحكون ويسخرون منه، ولكنهم لم يتجاوزوا ذلك إلى الايذاء الفعلى، فقد كان المجتمع المكي ينظر إلى دعوة محمد كدعوة من سبقه من أمثال " أمية بن أبى الصلت " , " وقص بن ساعده " سرعان ما تنتهى وتندثر وطالما أنه لا يتعرض لآلهتهم فلا خوف منه
ولكن بدأ أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم يزدادون يوما بعد يوم ونزلت الآيات التى تطعن فى الأصنام " آلهة قريش ". وتعير قريشا بأنها تعبد آلهة لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، وسفه عقولهم التى لا تبصر الحق من الضلال والظلمات من النور ".. هنا بدأ الايذاء الفعلى من قريش لمحمد صلى الله عليه و سلم ومن اتبعه من المسلمين وأوصى بعضهم بعضا بالنكاية بهم ليفتنوهم عن دينهم فقام أبو طالب بحماية محمد صلى الله عليه و سلم والزود عنه ضد قريش
وجدت قريش أنها لا تستطيع أن تنال محمد صلى الله عليه و سلم بكبير أذى طالما أنه يتمتع بحماية عمه أبى طالب ومن ثم اجمعوا أمرهم على أن يكلموا أبا طالب فى شأنه فذهب إليه وفد من أشرافهم يطلبون منه- خاصة وهو على مثل دينهم –أن يكف محمد صلى الله عليه و سلم عن سب آلهتهم وعيب دينهم وتسفيه أحلامهم وضلال آبائهم، أو يترك محمد صلى الله عليه و سلم لهم يفعلون به ما شاءوا، فردهم أبو طالب رداً جميلا – ولكنهم وجدوا أن هذه المقابلة لم تفدهم شيئا وأن محمد صلى الله عليه و سلم لم يكف عن الطعن فى آلهتهم، والعيب فى آبائهم وأبو طالب يشمله بحمايته والزود عنه، فذهبوا إليه مرة ثانية وأخبروه بأنهم لا يصبرون على شتم آبائهم وطعن آلهتهم وخيروه بين أمرين، إما أن منع ابن أخيه عن دعوته وإما أن يعلنوها حربا عليه وعلى ابن أخيه حتى يهلك أحد الفريقين، فوجم أبو طالب وأصابه هم شديد فهو بين أمرين أحلاهما مر، فهو أما أن يترك قريشا تسوم محمد صلى الله عليه و سلم العذاب، وإما أن يشترك معهم فى حرب غير مأمونه العواقب، لذا استدعى محمد صلى الله عليه و سلم وأخبره بما قالت قريش، وقال له : "ابق على نفسك وعلي ولا تحملني من الامر ما لا أطيق "فظن الرسول صلى الله عليه و سلم أن عمه قد تخلى عن نصرته فرد رسول الله صلى الله عليه و سلم قائلا:"والله يا عم لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على ان اترك هذه الامر حتى يظهره الله أو اهلك فيه ما تركته"،وخرج رسول الله باكيا فناده ابو طالب وقال له : اذهب يا ابن اخى فقل ما احببت فوالله لا أسلمك إلى شئ تكرهه ابدا
رأت قريش أن تجرب وسيلة أخرى مع أبى طالب علها تفيد، فاختاروا أقوى شباب قريش وأجملهم وأشعرهم وهو عماره بن الوليد، وذهبوا به إلى أبى طالب ليسلموه له ليتخذه ولدا فى مقابل ان يسلمهم محمداً ليقتلوه فقال لهم أبو طالب : لبئس ما تسوموننى به أتعطونى إبنكم أغذية لكم واعطيكم ابنى لتقتلوه وهذا والله لا يكون أبدا
ولما لم تجد قريش وسيلة للنيل من محمد اتجهت إلى من أسلم بها فسامتهم سوء العذاب وصبته على رؤسهم صبا، فلما رأى ذلك أبو طالب دعا بنى هاشم وبنى المطلب إلى حماية الرسول صلى الله عليه و سلم ونصرته ومنعه من قريش فأجابوه كلهم مسلمهم وكافرهم إلا أبا لهب فإنه أمعن فى غيه وضلاله
رأت قريش أن تجرب اسلوبا آخر عله ينجح، ولكنه فى هذه المرة لن يكون مع أبى طالب ولكنه مع صاحب الدعوة نفسه محمد صلى الله عليه و سلم وهو اسلوب الحيلة والإغراء بالمال والجاه، فأرسلوا إليه عتبه بن ربيعة فقال يفاوضه منه " إن كنت تريد بهذا الامر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا لملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه اموالنا حتى نبرئك منه فلما فرغ عتبة طالب منه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يستمع منه فقرأ عليهحم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فلما سمع عتبه أخذ ينصت إليه حتى انتهى الرسول إلى آية السجدة فسجدها وقال : أسمعت يا أبا الوليد، قال سمعت، قال : فأنت وذاك
ثم عاد إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض : لقد جاء أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به، فسألوه ما وراءك فقال إنه سمع كلاما ما سمع بمثله قط فلا هو بشاعر ولا كاهن ولا ساحر، وطلب منهم ان يخلوا بينهم وبين محمد وأن يتركوه لشأنه، فإن يقتله العرب فقد كفوهم شره، وان يظهر عليهم فسيكونون أسعد العرب به فملكه ملكهم وعزه عزهم فقالت قريش:لقد سحرك محمد والله يا أبا الوليد فقال عتبه:هذا رأيى فاصنعوا ما بدالكم
وجدت قريش أن الإغراء بالمال والجاه لم يجد فتيلا مع محمد صلى الله عليه و سلم وأن دعوته مستمرة فى الذيوع والانتشار، لذا نهجوا معه أسلوبا أخر فطالبوه بالمعجزات حتى يصدقوه اجتمعوا يوما عند الكعبة وبعثوا إليه وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يفرج عنهم الجبال التى ضيقت عليهم مكة، وأن يفجر لهم فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وأن يحيى آباءهم ومنهم قصي بن كلاب حتى يسألوه إن كان ما جاء به حقا أم باطلا، فإن فعل ذلك صدقوه وعرفوا أنه رسول الله إليهم، فقال لهم الرسول صلى الله عليه و سلم : ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثنى به فإن تقبلوه فهو حظكم فى الدنيا والآخرة وإن تردوا علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، ثم سألوه أن يسأل ربه أشياء لنفسه، بأن يبعث ملكا يصدقه بما يقول، وأن يجعل به جنانا وقصوراً وكنوزا من ذهب وفضة فإنه يقوم فى الأسواق ويلتمس المعاش كما يفعلون، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أنا بفاعل، ما أنا الذى يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثنى بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة وأن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم
وقريش فى طلبها لهذه المعجزات من رسول الله صلى الله عليه و سلم ما كانت لتؤمن برسالته إذا تحققت، بل كانت ستتمادى فى غيها وعنادها، كما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان رحيماً بهم، فهو يعرف أن سنة من قبله من الرسل إذا سألوا ربهم المعجزة لقومهم فتحققت فكذب القوم حق عليهم العذاب، ومحمد صلى الله عليه و سلم لم يرد لقريش هذا المصير، فقد سألته ان يجعل لهم الصفا ذهبا حتى يؤمنوا، فقال : وتفعلوا، قالوا : نعم فدعا ربه فأتاه جبريل : فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب الرحمة والتوبة قال : بل التوبة والرحمة، و يقول الله تعالى فى شأن مطالبتهم لمحمد صلى الله عليه و سلم بالمعجزات وعدم إيمانهم بها لو تحققتوَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ، وقوله وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآَيَاتِ إِلا أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا بدأت أخبار الدعوة الإسلامية تتجاوز حدود مكة وتتسرب إلى بعض البلدان القريبة منها فرأت قريش أنه وقد قرب موعد الحج واجتماع الناس من سائر البلاد إلى مكة فلابد لهم من كلمة يقولونها لهم في أمر محمد صلى الله عليه و سلم ودعوته، واتفقوا على أن يقولوا لهم إنه ساحر وجاء ليفرق بين الابن وأبيه وبين الزوج وزوجته، هادفين من ذلك إلى صرف الناس عن دعوة محمد صلى الله وعليه وسلم ولكن كان لمقالتهم هذه عكس ما أرادوا إذ نبهت العقول في سائر بلدان شبه الجزيرة إلى الدعوة المحمدية، وأخذ الناس في هذه الأقطار يتسمعون أخبارها ويتساءلون عن البني الجديد وعن حقيقة دعوته وبذلك انتشر ذكرها في سائر بلاد العرب من حيث أرادت قريش كتمانها ومحاصرتها .
الاضطهاد والتعذيب
وجدت قريش أن مفاوضتها السلمية مع رسول الله صلى الله وعليه وسلم لم تجد فوقفت بالمرصاد للدعوة الإسلامية وللمسلمين، ورغم حماية بني هاشم لرسول الله صلى الله وعليه وسلم إلا أنه لم يسلم من أذاهم فكان أبو لهب يلقى بالعذرة-فضلات الانيان و الحيوان- والنتن على بابه وعقبة ابن أبي معيط يخنقه بثوبه خنقا شديداً وهو قائم يصلي ويرمي على ظهره سلا جزور-وهي مشيمة الناقة التي تحرج مع الوليد عند ولادته-وهو ساجد
أما المسلمون فقد صبت قريش لجام غضبها عليهم ولم يتوقف إيذاؤها للمستضعفين والعبيد منهم، بل اضطهدت وعذبت الأغنياء والأحرار فهذا أبو بكر رضى الله عنه اجتمعت عليه قريش في المسجد فداسوه بأقدامهم وضربوه بنعالهم ضرباً شديداً على وجهه حتى غطى بالدم ثم ضربوه على بطنه ضرباً شديداً حتى فقد وعيه وأتت قبيلته فلفته في ثوب والجميع يظنون أنه مات من قسوة الضرب
وعثمان بن عفان رضى الله عنه يعلم عمه بإسلامه فيأمره بترك الإسلام أو يعذبه عذاباً حتى الموت فأبى عثمان إلا الإسلام فحبسه في حجرة مظلمة وقيده بسلاسل من حديد وحرم عليه الطعام والشراب
وطلحة بن عبيد رضى الله عنه يعلم بإسلامه نوفل بن خويلد فيشد وثاقه في حبل ويسحبه في طرقات مكة ويذهب به الى دار أبي بكر فيقرنه مع طلحة في حبل ويطوف بهما في طرقات مكة يسخر منهما الصبيان و العبيد ومن يومها سمي أبي بكر و طلحة بالقرينين
و الزبير بن العوام رضي الله عنه يسمع عمه بإسلامه فيقسم أنه إن لم يعد إلى دينه الأول ليحرقنه، ولكن الزبير أبى إلا الإسلام واستسلم لعذاب عمه فحبسه في حجرة مظلمة وشد وثاقه ودخن عليه حتى ملأ الحجرة دخانا وضاقت أنفاس الزبير فظن أنه ميت لا محالة وصبر لقضاء الله وأبى أن يرتد عن دينه فزاده عمه عذابا
إلا أن إيذاء قريش للمستضعفين والعبيد كان ولاشك أشد من إيذاء أبنائها فقست عليهم وتجردت من إنسانيتها في تعذيبهم وكانت قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، فبلال بن رباح رضى الله عنه يحرم الطعام والشراب ويجرد من ملابسه في أشد ساعات النهار حرارة ويطرح على ظهره فوق الرمال الحارة التي لو وضعت فوقها قطعة اللحم لنضجت، ثم يوضع فوق صدره صخرة عظيمة ويقول له سيدة أمية بن خلف الجمحي ستظل هكذا أو تكفر بمحمد فلا يفتأ يردد أحد أحد
وآل ياسر (عمار وزوجته وابنهما ياسر) رضى الله عنهم يخرب بيتهم ويحرق وتوضع الأغلال في أيديهم وأرجلهم ويضربون بالسياط وعندما تشتعل رمال الصحراء يخرجون إليها مقيدين، وينخسون بالخناجر لإجبارهم على الجري على هذه الرمال الملتهبة فيتساقطون من الإعياء ويضحك منهم المشركون ساخرين وكان أبو جهل يتفنن في تعذيبهم فكان يحمي الحديد في النار ويكوي به جنوبهم وظهورهم ثم يملأ حوضاً من الماء ويغرقهم بعد حرقهم بالنار ويترددون بين الحرق والغرق طيلة النهار ومر بهم رسول الله صلى الله وعليه وسلم وهم على هذه الحالة فقال لهم "صبراً آل ياسر ابشروا فإن موعدكم الجنة، و ماتت سمية بحربة أبي جهل وكانت أول شهيدة في الإسلام، أما ياسر فقد مات تحت التعذيب
وخباب بن الأرت رضى لله عنه كان حدادا فلما علمت سيدته (أم أنمار) بإسلامه كانت تربطه في عمود من البيت وتشعل الكور وتحمى الحديد وتجرد خباب من ثيابه وتكويه بالنار مرة بعد أخرى حتى يغشي عليه من التعذيب فتنتظر حتى يفيق ثم تعاود التعذيب، وما هذه إلا نماذج لما كان يلاقيه كافة المسلمين من تعذيب واضطهاد.
الهجرة إلى الحبشة
وأمام التعذيب والاضطهاد وعدم مقدرة المسلمين على حماية أنفسهم أشار عليهم الرسول صلى الله وعليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة قائلا لهم"لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم فيه "فخرج المسلمون إليها مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم فكانت أول هجرة في الإسلام
وكانت الهجرة إلى الحبشة على مرتين المرة الأولى في رجب من السنة الخامسة من البعثة وعادت في شوال من نفس السنة وكان عدد من هاجر من المسلمين 11 رجلا و4 نسوة على رواية وعشر رجال وثلاث نسوة على رواية أخرى خرجوا من مكة متسللين منهم الراكب ومنهم الماشي حتى انتهوا إلى ميناء صغيرا على شاطئ البحر الأحمر هو ميناء الشيبة وهيأ الله للمسلمين سفينتين للتجار أقلعتا وقت وصولهم فحملوهم معهم إلى أرض الحبشة بنصف دينار وجاءت قريش في أثرهم حتى جاءوا البحر فلم يدركوا منهم أحداً
ولم تكن الحبشة غريبة عن أهل مكة فكانوا يتاجرون معها وكان لأسواقها بريق في أعين التجار المكيين فجذبتهم إليها وكسبوا منها الأرباح الطائلة وكان لأهل مكة في نفوس أهل الحبشة تقديس خاص فهم في نظرهم "أهل الله" الذين يتمتعون بالحماية الإلهية، ومازالت في أذهاتهم حادثة الفيل وكيف كان للعناية الإلهية أثرها في هزيمة جيش أبرهة وإنقاذ مكة وبيت الله الحرام من خطر جيش أبرهة فضلا عن أن الأحباش كانون يدينون بالمسيحية وهي ديانة سماوية تقوم على التوحيد لهذه الأسباب وغيرها كان اختيار الرسول صلى الله وعليه وسلم للحبشة لتكون دار هجرة للمسلمين
ولاقى المسلمون معاملة طيبة من الأحباش ولكنهم لم يمكثوا بها أكثر من ثلاثة أشهر عادوا بعدها إلى مكة لما وصل إلى عملهم من امتناع قريش عن تعذيب المسلمين وفتنتهم، ولكنهم وجدوا قريشا قد تمادت في التعذيب والاضطهاد فعاد بعضهم إلى الحبشة ومعهم مسلمون آخرون، فكانت الهجرة الثانية إلى الحبشة
لم يخرج المسلمون في المرة الثانية إلى الحبشة دفعة واحدة بل على دفعات متلاحقة اشتدت إبان حصار قريش ومقاطعتهم للرسول وبني هاشم في شعب أبي طالب واكتمل عدد المسلمين بالحبشة في هذه المرة اثنين وثمانين في معظم الروايات ولكن المدقق في قائمة ابن هشام يجد أن عدد المسلمين في الحبشة كان 78رجلا و 17امرأة و 8من الأبناء فيكون عدد المهاجرين 103في مقدمتهم جعفر بن أبي طالب
والمتصفح لأسماء القبائل التي هاجر منها المسلمون يجد أن الإسلام قد انتشر بين كل قبائل مكة فبني هاشم هاجر منهم رجل وامرأة وبني أميه 3رجال و 3نسوة، وبني أسد بن عبد العزى، رجال وامرأة وبنو هذيل 4 رجال وبنو تميم رجلان وامرأة وبني مخزوم8رجال وامرأة وبني جمح7رجال و3نسوة و5أولاد وبني سهم 14رجلا وبني علي4رجال وامرأة وولد وبني عامر و8رجال و3نسوة وبني الحارث8رجال
وأقام المسلمون في الحبشة على خير ما ينبغي واشتغلوا بالزراعة والتجارة والصناعة وسلكوا في حياتهم ومعاملتهم سلوكا طيبا واحترموا قوانين البلاد وأهلها فأحبهم الأحباش وعاملوهم معاملة كريمة طيبة، كما أكرم النجاشي ملك البلاد مثواهم وأعلن حمايتهم فأعلنوا شعائر دينهم لا يخشون تعذيبا أو اضطهادا
أما قريش فلم تترك المسلمون في الحبشة وشأنهم وغاظها ما وجدوا بها من أمن واستقرار فأرسلوا إلى النجاشي عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة وحملوا معهما الكثير من الهدايا إلى النجاشي وبطارقته وقالوا للنجاشي : إنه لجأ إلى بلادكم غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك أشراف قومهم لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليه ولكن النجاشي أبي أن يردهم حتى يسمع قولهم فلما سمع منهم عن أمر دينهم ونبيهم طلب منهم أن يقرءوا له بعضا من القرآن فقرأ عليه جعفر بن أبي طالب صدرا من سورة مريم فبكى النجاشي وقال:إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة فو الله لا أسلمهم أبدا
واحتال عمر بن العاص على النجاشي عله يظفر بهم فقال له : إنهم يسبون عيسى بن مريم ويقولون فيه قولا عظيما، فأرسل إليهم فسألهم عن قولهم فيه فأجابه جعفر: إنه عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عوداً، ثم قال : والله ماعدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود اذهبوا فأنتم آمنون في أرضي من سبكم غرم، ردوا عليهما(عمرو وعبد الله)هذا ياهما فلا حاجة لي بها، وهكذا رجع وفد مكة خائباً من الحبشة وتمتع المسلمون بالأمن والأمان ومارسوا شعائر دينهم في حرية تامة
وظل المسلمون بالحبشة حتى السنة السابعة من الهجرة فأرسل إليهم الرسول من حملهم إليه، فعادوا وقد فتح الله على المسلمين خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم"والله ما أدري بأيهما أنا أسر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر"ولكن يبدوا أن المسلمين قد بدأوا في العودة منذ الهجرة واستقرار المسلمين بالمدينة لأن من عاد مع جعفر كان16رجلا فقط .
إسلام عمر بن الخطاب
كان لعمر بن الخطاب من الصفات ما يجعله أحد رجلين في الجاهلية عناهما صلى الله عليه و سلم بقوله "اللهم أيد الإسلام بأحب العمرين إليك عمرو بن هشام (أبو جهل) أو عمر بن الخطاب، وقد استجاب الله دعوة نبيه فاعتنق عمر بن الخطاب الإسلام
خرج عمر يوما يعترض رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجده يقرأ سورة الحاقة فوقف خلفه وأخذ يتعجب من نظم القرآن وظنه شعرا، فتلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إنه لقول رسول كريم * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَّا تُؤْمِنُونَ فظنه كاهناً فتلى صلى الله عليه و سلم وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ يقول عمر"فوقع الإسلام في قلبي"وكان هذا أول اتجاه منه إلى الإسلام
كان المهاجرون إلى الحبشة يخرجون من مكة سراً خوفاً من بطش قريش وكانت أم عبد الله بنت أبي حثمة قد أسلمت هي وزوجها عامر وأرادو الخروج إلى الحبشة، تقول أم عبد الله "والله إنا لنرتحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا إذ أقبل عمر وهو على شركه حتى وقف علي وكنا نلقى منه البلاء أذى وشدة، فقال: أتنطلقون يا أم عبد الله ؟ قلت نعم، والله لنخرجن في أرض الله، فقد آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا فرجا فقال:صحبكم الله ورأيت له رقه وحزنا، فلما عاد عامر أخبرته وقلت له لو رأيت عمر ورقته وحزنه علينا، قال:أطمعت في إسلامه ؟ قلت :نعم : فقال لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب، لما كان يرى من غلظته وشدته على المسلمين
والممعن في موقف عمر، من أم عبد الله يجد أنه قارب الوصول إلى الإسلام، فرقته غير المألوفة وحزنه على هجرة المسلمين، و عدم تعرضه لهم ودعاؤه لهم بالخير، ليس ذلك حال من أكل الحقد قلبه، و أعمى الضلال بصره من أعيان الشرك من أهل مكة
أما السبب المباشر لإسلامه، فهناك روايتان إحداهما يرويها عمر عن إسلامه فيقول: كنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش، فخرجت ليلة أريد جلسائي، فلم أجد منهم أحداً، فقلت لو أني جئت فلاناً الخمار لعلي أجده عنده خمراً فأشرب منها، فجئته فلم أجده فقلت ؟ لو أني جئت الكعبة فطفت بها، فجئت المسجد لأطوف، فإذا رسول الله صلى الله وعليه وسلم قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبينها فقلت لو أني استمعت إلى ما يقول محمد هذه الليلة ولئن دنوت منه لأروعنه فدخلت تحت ثياب الكعبة ومشيت حتى أصبحت أمام رسول الله صلى الله وعليه وسلم، وليس بيني وبينه غير ثياب الكعبة، فلما سمعت القرآن رق له قلبي، فبكيت فلم أزل واقفاً في مكاني حتى انتهي رسول الله صلى الله وعليه وسلم من صلاته وانصرف، فتتبعته حتى أدركته فلما سمع رسول الله صلى الله وعليه وسلم حسي عرفني، فظن أني تبعته لأؤذيه، فزجرني وقال: ما جاء بك يا ابن الخطاب في هذه الساعة ؟ قلت لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله، فحمد الله وقال:قواك الله يا عمر ومسح صدري ودعا لي بالثبات
أما الرواية الثانية فتذكر أن عمر خرج يوما متوشحاً سيفه يريد محمدا فقابله في الطريق نعيم بن عبد الله، ولما علم بمقصده، قال له: والله لقد غرتك نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا ومن الأجدر بك أن تقوم أهل بيتك أولا فإن أختك فاطمة وزوجها سعيد ابن زيد قد أسلما، فتوجه عمر من فوره إليهما وكان عندهما خباب بن الأرت يعلمها القرآن، فلما سمعوا صوته أختبأ خباب وخبأت فاطمة الصحيفة التي كانوا يقرأونها فسألها عمر عما سمع عن صبأهما واتباع محمد وبطش بزوج أخته فقامت أخته لتكفه عن زوجها فضربها وشجها حتى سال الدم من رأسها فقالت: نعم أسلمنا وآمنا فاصنع ما بدالك، فلما رأى ما فعله بأخته ندم وطلب منها أن تعطيه الصحيفة التي كانوا يقرأونها لينظر ما الذي جاء محمد وحلف لها بآلهته أنه لا يمسها بسوء فطمعت في إسلامه وقالت له إنك نجس لأنك مشرك و لا يمسها إلا المطهرون فقام فاغتسل فأعطته الصحيفة فلما قرأ منها صدراً، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه فلما سمع خباب منه ذلك، خرج من مخبئه، وقال :"والله يا عمر إني أرجو أن يكون قد خصك الله بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس يقول، اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام،أو بعمر بن الخطاب، فالله الله ياعمر"فسأله عن مكان رسول الله صلى الله وعليه وسلم فأخبره بأنه مع أصحابه.
صحيفة المقاطعة
وجدت قريش أن المسلمين يزدادون يوما بعد يوم وسياسة التعذيب والاضطهاد لم تثنهم عن عقيدتهم، وأن مهاجري الحبشة يتمتعون بحماية ملكها، وملسمي مكة يجاهرون بصلاتهم منذ أسلم عمر، ورسول الله ممتنع ببني هاشم لذا فكرت قريش في مواجهة شاملة تواجه بها محمداً وأصحابه ومن يناصرهم فاتفقوا على مقاطعة بني هاشم فلا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعون منهم حتى يسلموا محمد إليهم فيقتلوه، وكتبوا ذلك في صحيفة عرفت بـ"صحيفة المقاطعة" وعلقوها في جوف الكعبة ضمانا لتنفيذها وأخذوا العهود والمواثيق فيما بينهم للالتزام بتنفيذ ما جاء بالصحيفة
وأصر بنو هاشم وبنو عبد المطلب مسلمهم وكافرهم عد أبي لهب على نصرة محمد وحمايته وأمام هذه المقاطعة اضطروا إلى الخروج من مكة والالتجاء إلى شعب أبي طالب في جبل أبي قبيس (أحد الجبال المحيطة بمكة) فحاصرتهم قريش بها وكانوا لا يستطيعون الخروج منها إلا في الأشهر الحرم ونفذت قريش الحصار بكل دقة فرصدت العيون على بني هاشم ولم تترك طعاما ولا بيعاً يصل إليهم إلا سبقوهم إليه فاشتروا وكان أبي جهل ينادي في التجار الوافدين على مكة أن لا يبيعوا بني هاشم شيئا من تجارتهم ويشتريها منهم بأضعاف ثمنها فكان الواحد من بني هاشم إذا خرج لشراء طعام أو غيره ضاعف التاجر سعر السلعة فلا يقدر على شرائها ويعود إلى أطفاله بلا طعام وهم يتضرعون من الجوع
وطال الحصار على رسول الله وبني هاشم، وأنفقوا جميع ما يملكون ولم يبق لديهم شيء من مال أو طعام أنفقت خديجة كل ما تملك وأنفق أبو طالب ما عنده وأنفق كل بني هاشم ما عندهم، وكادوا يهلكون جوعا فاضطروا إلى أكل أوراق الشجر وكل ما ظنوه يسد رمقهم، يقول سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه وكان أحد المحاصرين، خرجت ليلة لأبول فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة فأخذتها وغسلتها ثم أحرقتها وطحنتها وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثة، وقال أحدهما: وطئت ذات ليلة على شيء رطب فرفعته إلى فمي فابتلعته فما أدري ما هو إلى الآن
وتحمل الرسول صلى الله عليه و سلم ومن معه عناء هذه المقاطعة بصبر وجلد وكانت الآيات القرآنية تنزل لتزيدهم ثباتاً وتطالبهم بالصبر وتحدي الحصار والقطيعة، ولم يثن ذلك الرسول عن نشر دعوته فكان يخرج في مواسم الحج والتجارة يدعو كل من وفد مكة إلى الإسلام، ولقد عاب بعض هؤلاء على قريش موقفها من بني هاشم وأعجبوا بثبات محمد وأصحابه فاستحسنوا الإسلام فاعتنقوه وكان هذا على عكس ما أرادت قريش من المقاطعة
وأراد الله للمحنة الرهيبة أن تزول وللغمة أن تنكشف وأن يجتاز المسلمون الابتلاء بنجاح، فاطلع جبريل النبي صلى الله عليه و سلم على أن صحيفة المقاطعة التي كتبتها قريش قد أكلت الأرضة كل ما فيها من ألفاظ القطيعة والظلم ولم يبق بها إلا أسماء الله فأخبر النبي عمه أبا طالب بذلك فخرج إلى قريش وأخبرهم بما قاله النبي وقال: فإن كان صادقا علمتم أنكم ظالمون لنا، قاطعون لأرحامنا، وإن كان كاذباً دفعته لتقتلوه
ووافق ذلك أن قام خمسة رجال من قريش هم هشام بن عمرو وزهير ابن أميه والمطعم بن عدى وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود عابوا على قومهم ما فعلوه ببني هاشم واتفقوا على نقض الصحيفة، فطاف زهير بالبيت سبعا ونادي في أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم !! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فعارضة أبو جهل فقام أصحاب زهير الأربعة ووافقوه على رأيه وقالوا: أنهم لا يرضون ما كتب في الصحيفة ولا يقرونه، فقال أبو جهل، هذا أمر قضى بليل ونشوور فيه بغير هذا المكان، فقام المطعم ليشق الصحيفة فوجدها على الصورة التي أخبرهم الرسول عنها، قد أكلت الأرضة كل ما فيها إلا أسماء الله وبذلك خرج بنو هاشم وبنو المطلب من الشعب وعادوا إلى مكة ليمارسوا حياتهم العادية ولكن قريشا استمرت في اضطهادهم وتعذيبهم وكان خروجهم من الحصار في السنة العاشرة من البعثة
وعلى الرغم من قسوة الحصار وشدة وطأته على المسلمين، فقد عاد بالخير عليهم وعلى الإسلام إذ عابت القبائل العربية على قريش سلوكها الشائن مع بني هاشم فلم يحدث أن سلكت قبيلة عربية مع أحد بطونها هذا السلوك الغريب، كما كان لموقف التحدي الرائع الذي وقفه المسلمون أثر كبير في اجتذاب بعض أفراد هذه القبائل للإسلام، أما قريش فقد هانت في أعين المسلمين بعد أن فشلت كل محاولاتها للنيل من الإسلام و المسلمين .
عام الحزن وخروجه إلى الطائف خرج المسلمون من المقاطعة وقد أضر الحصار بأجسادهم، وأصابهم الوهن والضعف خاصة الشيوخ والنساء، فلم يمض على انتهاء المقاطعة إلا شهوراً قليلة وأصيب الرسول بمصيبة عظيمة، فلقد مات عمه أبو طالب ناصره وحاميه ومانعه من مشركي قريش، في شوال من السنة العاشرة من البعثة، وبعده بأيام توفيت زوجته خديجة رضى الله عنها يقول ابن إسحاق ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه و سلم المصائب بهلك خديجة وكانت له وزير صدق على الابتلاء يسكن إليها ويهلك عمه أبي طالب وكان له عضدا وحرزا في أمره، ومنعه وناصرا على قومه
واشتد إيذاء قريش لرسول الله صلى الله عليه و سلم بعد موت أبي طالب حتى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب، ولما يئس من هدايتهم وفكر في أن يترك مكة ويخرج لينشر دعوته في مكان آخر علها تجد صدى في قلوب أهله فيحتمي بهم وينصرونه على قريش فخرج صلى الله عليه و سلم وحده إلى الطائف راجيا أن يقبلوا منه ما جاء به من عند الله
وتقع الطائف على مسافة 120كم من مكة وتسكنها قبيلة ثقيف الوثينة، ولهم بيت يعظمونه ويضعون عنده أصنامهم كما تفعل قريش بالكعبة، وأشهر أصنام ثقيف اللات
وكان بين ثقيف وقريش مودة، وتجارات وزراعات مشتركة وكان لبعض أغنياء قريش بساتين وقصور بالطائف يخرجون إليها لقضاء الصيف بها لاعتدال مناخها عن مكة، فكانت الطائف مصيف قريش، ولاشك أن ثقيفا علمت بدعوة محمد قبل أن يخرج إليها، ولم يعتنق أحد منها الإسلام حتى لا يفسد ما بينها وبين قريش من علاقات وروابط
قطع رسول الله صلى الله عليه و سلم المسافة سائرا على قدميه وأقام بالطائف عشرة أيام يدعو أهلها إلى عبادة الله ولكن دعوته لم تجد إلا قلوبا غلفاً وآذانا صماً وأعيناً عمياً فلم يستمع إليه منهم أحد
قابل رسول الله صلى الله وعليه وسلم في الطائف أبناء عمر بن عوف الثلاثة وهم من سادة ثقيف فعرض عليهم دعوته وطلب منهم نصرته فسخرو منه واستهزؤا به فقال أحدهما: أما وجد الله أحد أن يرسله سواك، وقال الثاني:والله لأمزقن أستار الكعبة إن كان الله قد أرسلك وقال الآخر:والله لا أكلمك أبدا إن كنت رسولا فأنت أعظم من أن أرد عليك، وإن كانت كاذبا فما ينبغي لي أن أكلمك، وأغروا به سفاءهم وعبيدهم فجعلوا يصيحون به ويتعقبونه ويقذفونه بالحجارة، فما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يرفع قدمه ويضعها إلا على حجر فسال الدم منهما ولم يرجعوا عنه إلا بعد أن خرج من الطائف
لجأ رسول الله صلى الله عليه و سلم– وقد نال التعب والإرهاق – إلى ظل بستان ليستريح، وتذكر ما فعلت به ثقيف فهانت عليه نفسه أترى ربه ساخطا عليه حتى يؤذي كل هذا الإيذاء؟ أم أنه يريد له الهوان على يد هؤلاء اللئام ؟ فأخذ أيناجيه. اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي. وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين،وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي. ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل على سخطك لك العقبى حتى نرضى ولا حول ولا قوة إلا بك
كان لموقف ثقيف من رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أحزنه وغمه فانطلق هائما على وجهه لا يدري أين يتجه وأخذ يفكر في قريش فلابد أنها علمت بخروجه إلى الطائف لينتصر بثقيف عليها أما وقد خاب أمله فيها فلابد أنهم سيتمادون في إيذائه والاستهزاء به، وكلما فكر في ذلك اشتد غمه وحزنه، فلم يعد له نصير في مكة بعد وفاة عمه أبو طالب، وبينما هو في هذه الحال، إذ نزل عليه جبريل عليه السلام ومعه ملك الجبال، فقال ملك الجبال "يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا به عليك وقد بعثني إليك لتأمرني بأمرك إن شئت دمدمت عليهم الجبال وإن شئت خسفت بهم الأرض"فرد رسول صلى الله عليه و سلم قائلاً:لا، بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من بعيد الله لا يشرك به شيئاً
وتحقق ما توقعه الرسول من قريش فلقد قفلت أبواب مكة في وجهه وأبت عليه العودة إليها وكان عليه إذا أراد أن يدخلها أن يستجير بأحد سادتها على عادة العرب – فاستجار بالمطعم بن عدى فأجاره ودخل مكة في حمايته وحماية أبنائه .
الإسراء والمعراج
ووسط هذه الآلام النفسية الرهيبة لرسول الله صلى الله عليه و سلم واساه ربه فدعاه إلى أعجب رحلة عرفت في تاريخ البشرية ليعرف قدره عند ربه، ويثبت بها فؤاده ولتكون بمثابة ترويح عما لاقاه في سبيل دعوته، وهي هجرة الإسراء والمعراج والإسراء: انتقال الرسول صلى الله عليه و سلم ليلا من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقص | |
|